فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والنفس اسم للقوة التي بها الحياة، فهي مرادفة الروح، وتطلق على الذات المركبة من الجسد والروح، ولكون مقر النفس في باطن الإنسان أطلقت على أمور باطن الإنسان من الإدراك والعقل كما في قوله تعالى حكاية عن عيسى: {تعلم ما في نفسي} [المائدة: 116] وقد مضى في سورة المائدة، ومن ذلك يتطرق إلى إطلاقها على خويصة المرء، ومنه قوله في الحديث القدسي في صحيح البخاري «وإن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي وإن ذكرني في ملإٍ ذكرته في ملإٍ خيرِ منهم» فقابل قوله: في نفسه بقوله: في ملإ.
والمعنى: اذكر ربك وأنت في خلوتك كما تذكره في مجامع الناس.
والذكر حقيقة في ذكر اللسان، وهو المراد هنا، ويعضده قوله: {ودونَ الجهر من القول} وذلك يشمل قراءة القرآن وغيرَ القرآن من الكلام الذي فيه تمجيد الله وشكره ونحو ذلك، مثل كلمة التوحيد والحوقلة والتسبيح والتكبير والدعاء ونحو ذلك.
والتضرع التذلل ولما كان التذلل يستلزم الخطاب بالصوت المرتفع في عادة العرب كني بالتضرع عن رفع الصوت مرادًا به معناه الأصلي والكنائي، ولذلك قوبل بالخُفيه في قوله: {ادعوا ربكم تضرعًا وخفيةً} في أوائل هذه السورة (55) وقد تقدم.
وقوبل التضرع هنا بالخيفة وهي اسم مصدر الخوف، فهو من المصادر التي جاءت على صيغة الهيئة وليس المراد بها الهيئة، مثل الشدة، ولما كانت الخيفة انفعالا نفسيًا يجده الإنسان في خاصة نفسه كانت مستلزمة للتخافت بالكلام خشية أن يَشعُر بالمرء من يخافه.
فلذلك كني بها هنا عن الإسرار بالقول مع الخوف من الله، فمقابلتُها بالتضرع طباق في معنيي اللفظين الصريحين ومعنييهما الكناءين، فكأنه قيل تضرعًا وإعلانًا وخيفة وإسرارًا.
وقوله: {ودون الجهر من القول} هو مقابل لكل من التضرع والخيفة وهو الذكر المتوسط بين الجهر والإسرار، والمقصود من ذلك استيعاب أحوال الذكر باللسان، لأن بعضها قد تكون النفس أنشط إليه منها إلى البعض الآخر.
و{الغُدو} اسم لزمن الصباح وهو النصف الأول من النهار.
و{الآصال} جمع أصيل وهو العشي وهو النصف الثاني من النهار إلى الغروب.
والمقصود استيعاب أجزاء النهار بحسب المتعارف، فأما الليل فهو زمن النوم، والأوقات التي تحصل فيها اليقظة خصت بأمر خاص مثل قوله تعالى: {قم الليل إلا قليلًا} [المزمل: 2] على أنها تدخل في عموم قوله: {ولا تكن من الغافلين}.
فدل قوله: {ولا تكن من الغافلين} على التحذير من الغفلة عن ذكر الله ولاحد للغفلة، فإنها تحدد بحال الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أعلم بنفسه.
فإن له أوقاتًا يتلقى فيها الوحي وأوقات شؤون جِبِلّية كالطعام.
وهذا الأمر خاص بالرسول عليه الصلاة والسلام، وكل ما خص به الرسول عليه الصلاة والسلام من الوجوب يستحسن للأمة اقتداؤهم به فيه إلا ما نهوا عنه مثل الوصال في الصوم.
وقد تقدم أن نحو {ولا تكن من الغافلين} أشد في الانتفاء وفي النهي من نحو: ولا تغفل، لأنه يفرض جماعة يحق عليهم وصف الغافلين فيحذر من أن يكون في زمرتهم وذلك أبْين للحالة المنهي عنها. اهـ.

.قال التستري:

وقوله: {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [205] ما حقيقة الذكر؟ قال: تحقيق العلم بأن الله تعالى مشاهدك، وتراه بقلبك قريبًا منك، وتستحي منه ثم تؤثره على نفسك في أحوالك كلها، ثم قال: ليس من ادعى الذكر فهو ذاكر.
فقيل له ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «الدنيا ملعون ما فيها إلاَّ ذكر الله تعالى» قوله: «ذكر الله» هاهنا الزهد عن الحرام، وهو أن يستقبله حرام، فيذكر الله تعالى، ويعلم أنه مطلع عليه، فيجتنب ذلك الحرام.
وقوله: {وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الغافلين} [205] قال سهل: حقًا أقول لكم ولا باطل، يقينًا ولا شك: ما من أحد ذهب منه نفس واحد في غير ذكر الله إلاَّ وهو غافل عن الله عزَّ وجلَّ.
وقال: غفلة الخاص السكون إلى الشيء، وغفلة العام الافتخار بالشيء، يعني السكون، والله سبحانه وتعالى أعلم. اهـ.

.التفسير المأثور:

{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)}.
أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: أمره الله أن يذكره ونهاه عن الغفلة، أما بالغدوّ: فصلاة الصبح، والآصال: بالعشي.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي صخر قال: الآصال: ما بين الظهر والعصر.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} [الأعراف: 204] قال: هذا إذا أقام الإِمام الصلاة فاستمعوا له وأنصتوا {واذكر ربك} أيها المنصت {في نفسك تضرعًا وخيفة ودون الجهر من القول} قال: لا تجهر بذاك {بالغدوّ والآصال} بالبكر والعشي {ولا تكن من الغافلين}.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن عبيد بن عمير في قوله: {واذكر ربك في نفسك} قال: يقول الله «إذا ذكرني عبدي في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني عبدي وحْده ذكرته وحدي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ أحسن منهم وأكرم».
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد {بالغدوّ} قال: آخر الفجر صلاة الصبح {والآصال} آخر العشي صلاة العصر، وكل ذلك لها وقت أول الفجر وآخره، وذلك مثل قوله في سورة آل عمران {بالعشي والإِبكار} [آل عمران: 41] ميل الشمس إلى أن تغيب، والإِبكار أول الفجر.
وأخرج عبد بن حميد عن معرف بن واصل قال: سمعت أبا وائل يقول لغلامه عند مغيب الشمس: آصلنا.
وأخرج البزار والطبراني عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {ولا تكن من الغافلين} قال: ذاكر الله في الغافلين كالمقاتل عن الفارين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن بكير بن الأخنس قال: ما أتى يوم الجمعة على أحد وهو لا يعلم أنه يوم الجمعة إلا كتب من الغافلين.
وأخرج الطبراني وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عمرو «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الغفلة في ثلاث. عن ذكر الله، ومن حين يصلي الصبح إلى طلوع الشمس، وأن يغفل الرجل عن نفسه في الدين حتى يركبه». اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {تَضَرُّعًا وخيفَةً}.
في نصبهما وجهان:
أظهرهما: أنَّهُمَا مفعولان من أجلهما، لأنَّهُ يتسببُ عنهما الذِّكر.
والثاني: أن ينتصبا على المصدر الواقع موقع الحال، أي: مُتضرعين خائفين، أو ذوي تضرع وخيفة.
وقرئ {وخفيَةً} بتقديم الفاءِ، وقيل: هما مصدران للفعل من معناه لا من لفظه ذكره أبو البقاءِ.
وهو بعيدٌ.
قوله: {ودُونَ الجَهْرِ}.
قال أبُو البقاءِ: معطوف على تَضَرُّع، والتقديرُ، ومقتصدين.
وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ دُوَ ظرفٌ لا يتصرَّف على المشهور، قال فالذي ينبغي أن يجعل صفة لشيء محذوف ذلك المحذوف هو الحال، كما قدَّرهُ الزمخشري فقال: ودُونَ الجهْرِ ومتكلمًا كلامًا دُونَ الجهْرِ، لأنَّ الخفاء أدخلُ في الإخلاص، وأٌربُ إلى حسن التفكر.
فصل:
معنى تضرُّعًا وخيفَةً أي: تتضرَّعُ إليَّ وتخافُ منِّي، هذا في صلاة السِّر وقوله ودُونَ الجهْرِ أرادَ في صلاة الجهرِ لا تَجْهَر جَهْرًا شديدًا، بل في خفضٍ وسُكونٍ تُسمعُ من وقال مجاهدٌ وابن جريجٍ: أمروا أن يذكروه في الصدورِ بالتضرع في الدُّعاء والاستكانة دون رعف الصوت والصياح في الدعاء.
قوله بالغُدُوِّ والآصالِ متعلق بـ: اذْكُر أي: اذكُرْهُ في هذين الوقتين وهما عبارةٌ عن اللَّيل والنَّهارِ.
ومعناهما: البكرات والعشيَّات.
وقال أبُو البقاءِ: بالغُدُوِّ متعلق بـ: ادعُو وهو سبقُ لسانٍ، أو قلم، إذ ليس نظمُ القرآن كذا، والغُدُوُّ: إما جمع غدوة، كـ: قمح وقمحة، وعلى هذا فيكون قد قابل الجمع بالجمع والمعنوي.
وقيل هو مصدرٌ، قال تعالى: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12] فيقدَّرُ زمانٌ مضاف إليه حتَّى يتقابل زمان مجموع بمثله تقديره: بأوقات الغدو، والآصال جمع: أصُل، وأصُل جمع: أصيل، فهو جمع الجمع ولا جائزٌ أن يكون جمعًا لـ: أصِيل، لأنَّ فعيلًا، لا يجمع على أفعال وقيل: هو جمعٌ لـ: أصِيل، وفَعِيلٌ يجمع على أفْعَال نحو: يَمِينٌ وأيمانٌ، وقيل: آصال جمع لـ: أصُل، وأصُل مفرد، ثبت ذلك من لغتهم، وهو العَشِيُّ وفُعُل يجمع على أفْعَال قالوا: عُنُق وأعْنَاق، وعلى هذا فلا حاجة إلى دَعْوَى أنَّه جمعُ الجمع، ويجمعُ على أصْلأان كـ: رغيفٍ ورُغْفَان، ويُصَغَّر على لفظه؛ كقوله: [البسيط]
وقَفْتُ فيهَا أصَيْلانًا أسَئِلُهَا ** عَيَّتْ جوابًا وما بالرَّبْعِ مِنْ أحَدِ

واستدلَّ الكوفيُّون بقولهم: أصيلان على جواز تصغير جمع الكثرةِ بهذا البيت، وتأوَّلَهُ البصريُّون على أنَّه مفرد، وتُبْدَل نونه لامًا.
ويروى أصيلًا كَيْ.
وقرأ أبو مجلز واسمه: لاحقُ بنُ حُميدٍ السدوسيُّ البصري: والإيصَال مصدرُ: أصَلَ أي: دَخَلَ في الأصيلِ، والأصيلُ: ما بين العصر والمغرب. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)}.
التضرعُ إذا كوشِفَ العبدُ بوصف الجمال في أوان البسط، والخيفة إذا كوشف بنعت الجلال في أحوال الهيبة، وهذا للأكابر.
فأمَّا مَنْ دونَهم فَتَنوُّعُ أحوالهم من حيث الخوف والرجاء، والرغبة والرهبة. ومن فوق الجميع فأصحاب البقاء والفناءِ، والصحو والمحو ووراءهم أرباب الحقائق مُثْبَتُون في أوطان التمكين، فلا تَلَوُّنَ لهم ولا تجنُّسَ لقيامهِم بالحق، وامتحائهم عن شواهدهم. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)} أي لا تكن من الغافلين عن مطلوبات الله بالحدود التي بينها الله عز وجل؛ لأن الغفلة معناها انشغال البال بغير خالقك، وأنت إن جعلت خالقك في بالك دائما فإنك لا تغفل عن مطلوباته في الغدو والآصال وفي كل وقت، سواء كنت في الصلوات الخمس، أو كنت تضرب الأرض في أي معنى من المعاني، وتأس أيها المؤمن بالملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فإذا كان الملائكة والذين لم يرتكبوا أية معصية وليس لهم موجبات المعصية، ولا يأكلون ولا يتناسلون، وليس لهم شهوة بطن ولا شهوة فرج، وكل المعاصي جميعها تأتي من هذه الناحية، مع ذلك يجب عليك أن تتأسى بهم؛ لأنهم هم الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون لا يستكبرون عن عبادته، ويسبحونه؛ وله يسجدون، لذلك يقول الحق بعد ذلك: {إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ...}. اهـ.